في القيروان عائلة “شهيد” من الأمن تحيي ذكرى عيد الشهداء بمفردها “حزينة”

 

 * ريبورتاج ناجح الزغدودي

في منزل نيثر عيادي، عون الأمن الشاب (24 عاما) الذي قتل إثر إطلاق نار على منزل وزير الداخلية السابق لطفي بن جدو قبل عام،  لم تكن ذكرى الشهداء (عيد وطني يوم 9 أفريل/نيسان 2015)، سوى مناسبة حزينة أخرى. فالعائلة لم تتلق دعوة من أي مسؤول جهوي ولا وطني لحضور موكب رسمي بالمناسبة لرد الاعتبار لابنها “شهيد” وتكريمها كما جرت العادة، كما أنه لم يزرها أي مسؤول. فتضاعف حزنها وتدفقت دموعها من جديد. 

 

على جانب ضريح ابنه الّذي أحاطه بأكاليل من الزهور البرية ووضع في واجهته صورته بحجم كبير، جلس الوالد جمعة العيّادي، وهو رجل خمسيني، يحادث صورة ابنه كما لو أن صاحبها حي يرزق والحال أنه وري الثرى منذ شهر ماي 2014.

لم يشارك الأب جمعة في إحياء ذكرى الشهداء سوى الابن الأكبر محمّد (26 سنة)، وحيدان في مقبرة معتمدية نصر الله جنوب محافظة القيروان تطل على جبل الشراحيل. فقد انتظرا في المقبرة طويلا وصول شخصيّات سياسيّة وعدت بتكريم “الشهيد” في يوم عيد الشهداء ولكنهم نكثوا ولم يصلوا ولا يعرف سبب تغيبهم. ولم تكن هي المرّة الاولى التي يغيب فيها المسؤولون عن العائلة ويغفلون الاتصال بها.

 

بعد فراغه من زيارة ضريح ابنه، وهي زيارة يوميّة لم يملّ منها، يعود الوالد جمعة مثقل الخطى الى منزل العائلة، تتلقفه سيارة نقل عمومي تختصر مسافة 7 كيلومترات غير مهتم بحالة الطريق السيئة.

 

وأفاد السيد جمعة أنه منذ موكب دفن ابنه في 27 ماي/أيار2015، الذي حضره كاتب دولة في حكومة المهدي جمعة ووالي القيروان، لم يعد يتصل بالعائلة أي مسؤول منهم بمن في ذلك مسؤولي وزارة الداخليّة وممثلي نقابات الأمن وزملاء نيثر في سلك الأمن ولا أصدقاؤه المقربون. جميعهم نسوا ذلك الشاب الذي كان يحب الجميع ولكن العائلة لم تنس ولم تجف عبراتها.

 

بكاء في يوم عيد

 

الوطنية وخذلان الوطن

الوطنية وخذلان الوطن

تغطي الأعلام (التّونسيّة) جدران الغرف الضيقة بمنزل العائلة الريفي. وبالأخص العلم الضخم الذي سّجي فيه ابنها يوم دفنه. فبدت العائلة كأنها تحي عيد “الشهيد” كل يوم بمفردها.

 

بعدا وفاته، حولت العائلة غرفة “نيثر” الى مزار أو قاعة عرض بها الأعلام والصور التذكاريّة ومعلقات الشكر والشهائد المهنية والشهائد الدراسيّة التي تحصل عليها. فينثرها الوالد ويعدد خصال كأنه يؤبنه من جديد.

 

تؤكد صابرة عيّادي، والدة “نيثر” أنها لم تكفكف دموعها منذ فارقته. فهناك أشياء كثيرة تجعلها تبكي في اليوم أكثر من مرّة خاصة وهي تنتظره على مائدة الطعام ليلا وتظنه سيأتي. ومرّة وهي تشاهد جنازات الامنيين والعسكريين وآخرها موكب تأبين 5 جنود قتلوا (استشهدوا) في أحداث جبل المغيلة على يد مجموعة مسلحة (ارهابيّة). وتبكي مرّة وهي تتذكر وعود المسؤولين برد الاعتبار لابنها الذي قدّم روحه فداء للوطن. وتبكي مرّة وهي تستمع الى اجابة المحامي المتعهد بمتابعة القضية التي رفعتها، ينتظر منها مزيدا من الانتظار.

IMG_6500

لكن اكثر ما آلم العائلة هي المراسلة التي تلقتها من دائرة المحاسبات التابعة للقباضة الماليّة تطالب “شهيد الوطن نيثر عيادي بارجاع اموال عمومية” حسب نص المراسلة، وتتمثل في مرتب شهر جوان الذي لم يسمح له الارهابيون بانجازه مثل ال25 شهرا من العمل التي انجزها قبل مقتله وهو يحرس منزل الوزير.

 

قصة منزل الوزير

 

تحتفظ العائلة بتفاصيل ومعطيات تعتبرها “حقائق”  قال الوالد جمعة انه كشفها من خلال بحثه الميداني وعن طريق شهادات لمواطنين حاورهم وزملاء ابنه. منها ان ابنه نيثر وهو عون شرطة، يعمل عادة ضمن منطقة الشرطة بالقصرين. وصادف يومها تغيب أحد الاعوان المكلفين بحراسة منزل وزير الداخلية لطفي بن جدو بالجهة، فكلّف نيثر بتعويضه ليلتها. وحسب السيد جمعة فان ابنه لم يكن يرفض أيّة اوامر في العمل ويجتهد في عمله وله سجل حافل بالعمليات التي نال من اجلها شهائد تقدير منها القبض على مجرمين ومتهمين بالإرهاب.

 

وأفاد الوالد ان ابنه أسرّ للعائلة قبل مقتله بكونه مراقب من قبل “سلفي” يتبعه في أكثر من مكان. كما أسّر له أنه تمكن من ايقاف أحد أشقاء مراد الغرسلي أحد أكبر المطلوبين من قبل وزارة الداخليّة في قضية الهجوم على منزل الوزير.

 

كبش فداء وأمن موازي

IMG_6496

لم تكن الوالدة صابرة تدرك بشكل جدّي، عندما قال لها مازحا “سوف لن أعود”، سيكون آخر ما يرسخ في ذهنها. ولم تكن تعلم وهي تدعو له وتدعوه الى الانتباه واليقظة، أنها شعرت باقتراب أجله رغم طمأنة أسرته أنه يحرس منزل وزير الداخليّة على أساس أنه مؤمن بشكل جيد ولا يجسر أحد على مهاجمته ثم حصل العكس. وهذا جعل العائلة تتساءل كيف أنه لم تطلق رصاصة واحدة باتجاه المسلحين رغم قرب منطقة الشرطة من مكان الهجوم وتفطن الأعوان لكنهم لم تطلقوا النار. وهذا زاد في حزنها. وتريد العائلة كشف الحقيقة قبل ذكرى استشهاد ابنها في 27 ماي/أيار 2015.

 

يذكر محمد الشقيق الأكبر، كيف أن نيثر كان وهو يشاهد موكب جنازات زملائه ويحضرها، يتمنى ان يموت في المواجهة وبالرصاص وأن يقام لو موكب جنازة مثلهم.

 

خففت زيارة الوالد جمعة الى البقاع المقدسة (السعودية) للحج، من حزنه. وقال ان مدة الشهر التي قضاها في مناسك الحج جعلته ينسى بعض الشيء، لكنه بمجرد رجوعه، عادت اليه همومه وعاد يتصل برقم هاتف ابنه الذي لم يعثروا عليه عند استشهاده كما لم يعثروا على حافظة أوراقه وحقائق أخرى قال الوالد جمعة إن يكشفها فسيكون لها خطر عليه، ومن بينها روايات عن “الأمن الموازي” وهي عبارة توصف بها الاختراقات صلب وزارة الداخليّة، وتحدث عن تعرض ابنه الى “مكيدة” جعلته بمثابة كبش فداء وهذا استباق للتحقيق لقضائي. ويطالب بشدّة بكشف الحقائق.

 

وعود لا تتحقق

 

زيارة الوالد جمعة الى لأداء مناسك الحج، كانت بمثابة “هدية” من رئاسة الجمهورية قدمها الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي لعدد من أفراد أسر أمنيين قتلوا في أحداث ارهابيّة. وبخلاف هذه الهبة، لم تحصل العائلة بعد على ما وعدت به من جراية تقاعد (معاش) وتأمين صحّي ومسكن اجتماعي للعائلة ولا تخليد لذكرى ابنها الشهيد مثل التكريم الذي حصل عليه عون أمن سقراط الشارني من محافظة الكاف، قتل في مواجهات مع مسلّحين.  ومن بين امتيازاته تعيين شقيقة له معتمدة في حكومة المهدي جمعة التي انتهت في فيفري/شباط 2015 ثم كاتبة دولة مكلفة بملف الشهداء في حكومة الحبيب الصيد الى اليوم.

IMG_6506

طلب محمد أن يتم انتدابه في سلك الشرطة مكان شقيقه، ولكن مؤهلاته والإجراءات الادارية لم تسعفه. ودافعه مواصلة مشوار شقيقه وملء الفراغ النفسي الذي خلفه مقتله. وأفادوا أنه كلما شاهدوا الزي الرسمي للفقيد، هاجت مشاعرهم حزنا. والأمر الآخر في أمنية محمد هو حاجة العائلة الى معيل وسند مادي ينفق عليهم ويعوّض دور شقيقه نيثر في كفالة عائلته الفقيرة.

 

ولكن لم تكتمل بعد فرحة محمد بالوظيفة التي قدمت له بمقر معتمدية نصر الله (إدارة محلّية تابعة لوزارة الداخلية)، فهو يشتغل منذ 8 أشهر ولم يحصل على مرتب واحد طيلة الفترة.

 

تؤكد الأسرة أنها ترفض المتاجرة بدم ابنها الشهيد، ولكنها تعتبر أن كل اتصال أو تدخل رسمي يخفف عنها الضغط النفسي الذي تعاني منه ويجعلها مرتاحة البال.

 

تدفع الذكريات الأليمة العائلة الى التفكير في مغادرة ذلك المسكن المتواضع بمنطقة “هنشير الهامل”، الى محل سكنى آخر عسى أن ينسيه ذلك ذكريات ابنها التي تلاحقها في كل حركاتهم بالنهار ومحاولات نومهم بالليل. علاوة على أن الجهات الرسميّة وعدتهم بتمكينهم من مسكن.

 

تنكر الدولة

بسبب التجاهل المتواصل من قبل المسؤولين، تعتبر عائلة الأمني الضحيّة نيثر العيادي أن تضحيات ابنها من أجل الوطن قوبلت بجفاء المسؤولي وافتقادها لدعمهم المعنوي والمادي ومنها البسيط جدّا. ومن المقترحات البسيطة التي عرضتها العائلة على البلديّة، هي تسمية شارع باسم ابنها “الشهيد” وتسمية ساحة “7نوفمبر” كما كان يطلق عليها قبل ثورة 2011، باسم ابنها واقترح صديق للعائلة تسمية اسم المقبرة باسم ابنها الشهيد “نيثر العيادي”.

 

وتتجه نيّة العائلة الى تنظيم تظاهرة ثقافية وفكريّة في الذكرى الأولى لوفاة ابنها على أمل أن تخلد ذكرى ابنها لانها تعتبر أن كل ما تفعله يخفف من أوجاعها وأحزانها ويضع عنها جانبا من شجن ذكريات ابنها الذي كان مصدر بهجة العائلة وكافلها ومنير ظلمتها كما تقول والدته صابرة التي لم تصبر على ذرف الدموع في ذكرى عيد الشهداء وهي تحتفي بابنها وحيدة يرتد الى مسمع صدى صوت ابنها وهو عائد من عمله من القصرين وهي تشاهد موكب تأبين 5 شهداء من الجيش الوطني، لقوا مصرعهم في مكان قريب من المكان الذي قتل فيه ابنها ب70 رصاصة، وتدعو أن يتوقف هذا النزيف المشبوه في نظرها وأن لا تفجع والدة في ابنها…لأنها تعرف حقا معنى أن تفقد أمّا فلذة كبدها في سبيل الوطن ثم تجابه بالجحود.

مقال نشر بوكالة الاناضول/http://ar.haberler.com/arabic-news-699857/