القهوة العربي…وراس الشادلية…وجه قهوتي مشرق

* خواطر ناجح الزغدودي

لا أعرف كم واحدة سكبت في فنجاني وأصبت توقعاتي للشكل الذي ستتخذه. ولكني في كل مرة أسكب القهوة التي أعددتها سواء بالصباح أو بالمساء، أتطلع الى رسمها وخطوها. أفعل ذلك تأملا واشتياقا مثل قارئ فنجان. إنما يقرأ العراف قاعها يائسا بحثا في بقايا أما أنا فأبحث في تفاؤل طلعها في سر صرتها ونكهة ماء الزهر الذي خالطها.

“القهوة بنت الوقت تشرب على مهل” وربما هي عائلة الوقت وخليلة كل رفيق لها.

في كل مرة أعد القهوة لأعهد اليها مهمة ايقاظ الحواس قبل الانطلاق في رحلة العمل والبحث عن الامل، صباحا أو لتكون أنيسة ومسلية بالليل وان أذهبت غفو الجفون، تتراءى الرسوم والخيال ونتوهم عطر الزمن وعرق المجتهد. وأمسك نفسي عن نشر صورة لتلك المؤنسة البهية مثلما يفعل العشاق مع صورهم في الخلوات والرحلات وهمس الحنين.

مع توافر شبكات التواصل الاجتماعي وتهافت المبحرين على مواقعها، تحولت القهوة الى ايقونة ثابتة وفقرة صباحية متجددة على الصفحات. بها تبدأ تحية الصباح الأولى تغازل خيوط الشمس المنسدلة وتختم بها الأمسيات المهفهة النسمات.

بين القهوة الواقعية المنشورة والصور الافتراضية لقهوة مشتهاة، يصير تنافس وتفاخر وتسابق حتى يكاد عشاقها ينظمون لها مسابقة أجمل قهوة او ألذ مؤنسة أو ازكى ملهمة او أعطر خليلة أو أشهى حلم. يا للقهوة وسحرها.

اسمها عتيق ومنشأها ولكن اسمها متجدد وصفاتها. يتحدث عنها الطبيب في زعم فوائد ونفي مضار وتطالعنا شركات الاشهار تتبارى حول المعنى والشعار. صحيح نكهة القهوة تختلف وريح القهوة يختلف وشكل وجه القهوة يختلف وصرتها تختلف ومكوناتها تختلف. ولكن في الاخير هي قهوة واحدة الا من اضاف لسمرتها النقية الاصيلة بياضا لحليب من زمن الطفولة.

لعل القهوة هي التي منعت الحروب ووحدت الشعوب دون ان نعلم نحن البشر عن الحقيقة شيئا وندعي الكثير. لا احد يعلم يقينا من اول من شرب القهوة. والى اليوم بعضنا لا يعرف معاني القهوة.

صمتا، على موجات بعض الاذاعات اسمع قهوة بمسميات لبرامج وفقرات. بها يفتتح الحوار وتلقى تحية الصباح. “هل شربت قهوتك؟” لا شك ان هناك من يسألك يوميا ويحضرها لك من تعود ان يلهمك ويسعفك حتى وان كنت لا تعتني براحتيه وهي تضع القهوة وتضيف السكر. ربما لا تريد سكرا في القهوة وهذا ليس مشكلا…وحدها القهوة قهوة بلا اضافات رشيقة خفيفة مريئة وهي مريرة.

“أين قهوتي”، كنت أطالعها على صفحة الفيسبوك، للباي معز الصحفي الذي يسأل عن قهوته الصباحية. لم اكن اعرفه وعندما عرفت قهوته عرفته. صديقنا المغربي الذي قال ذات مرّة “أنه يحبنا” وهو يلقي لنا الشروح ويضيف لنا المعاني لنتقى الحدث والحديث، قرّر ان يضيف عبارة “سنشوف” لفصيح الكلام ولكنه سرق من الباي معز عبارته “أين قهوتي”. يزين بها صفحته وأنا أتخيل لهجته المغربية الاصيلة وهو ينطق عبارة “قهوتي” من يخبرنا حقيقة، هل القهوة المغربيّة ألذ أم عبارة القهوة بلسان مغربي.

التقطت صورا لقهوتي ونشرت صورا لقهوتي. وقتها وددت لو اني أهدي لمن معي في الصفحة الافتراضية قهوة قهوة…ولكني في الحقيقة شاركتهم روح القهوة وأمل القهوة وسر في تلك الصرر.

للقهوة فنجان مخصوص نحتفظ به…فقط للقهوة. ننقله نحمله معنا يرافقنا بحثا عن قهوة يملؤنا قبل أن نملأه قهوة.

هههه، ها انا أضحك نعم. أذكر أول مرة تعلمت عبارة “دلق القهوة فأل خير”…ههه لا اذكر من قالها ولكنها عبارة خرافية متداولة. لا أريد أن أكون متصوفا في عشقي للقهوة فأبالغ بالقول أن القهوة متفقة مع القدر لتهدي خيرا وتنشر بشرا في ارجاء المكان لمن دلقت له قهوته. ههه الأقرب أنها مواساة يا صديقي الذي يقولها دعك من ذلك. هل تعتقد ان خسران قهوة فيه فأل خير. طير من امامي لا أؤمن بالتطير.

ههههههه تذكرت أمرا آخر غريبا. المعذرة عن الضحكات في حضرة القهوة التي تركتها ترتاح من رحلة النار.

عندما سمعت خالتي تقسم “وراس ها الشادليّة”، وهي تتحدث مع زوجة قريب زوجها، لم أدرك معنى هذا القسم. تعلمنا ان نقسم “والله”، فما حكياة الشاذلية. يومها دفنت حيرتي وأجلت الاستفسار. تحينت فرصة لقاء بيني وبين خالتي تؤنسنا قهوة فسألتها ما حكاية”راس الشادلية” لإخبرتني ضاحكة…هي القهوة. كم هي مرحة خالتي رغم الألم ورحلة الصبر في العاصمة. كنت اشتقال الى العيش في العاصمة ولكني لم اعد افعل. صحيح فيها قهوة لذيذة ولكن القهوة، بكل احترام، لا تصنع الربيع في العاصمة.

“قهوة عربي”

للقهوة جنسيات مختلفة. آخر جنسية سمعتها هي “قهوة أمريكيّة” استضافتني لشربها صديقة قيروانية نحتت لها اسما في العاصمة وفرضت جهدها وحصلت على لقب الذهب. من حسن حظي أنني تعرفت سابقا الى القهوة الامريكيّة من بين انواع القهوة الكثيرة…وألذها قهوة الشوكلاطة. هنيئا للبونديين.

نحن العرب تميزنا القهوة العربي. ربما لأنها يمنية أصيلة وربما لأننا نطبخها نحن العرب بأيدينا. ولأهل الشرق عادات في شرب القهوة منها الطريف ومنها المثير.

في مدينتي القيروان، تمتلئ الشوارع برائحة القهوة حتى تكاد تتعثر من ريحها أو تصطدم بها على كل رصيف. لا تحلو القهوة لبعضنا سوى على الرصيف بمشاهد أنثوية عابرة هي أقرب للتلصص والتحرش بذريعة القهوة.

للأنثى حظها من القهوة، ان نفرها صخب المقاهي الشعبية فتختلي بها في مكان خفي لا اعلم لماذا يسمى قاعة شاي ولا يسمى قاعة قهوة كأن القهوة لا تصلح للأنس والصداقة وخلوة العشاق. ربما هي مصادفة التسميات المستوردة.

في الحقيقة لا ألوم ذلك الموظف الذي غادر مكتبه لجلب قهوة، فهل يحلو العمل ويروق بلا قهوة؟ هل يمكن لنا ان نتحاور ونتخاطب دون خصام، بلا قهوة؟

ههههه لا تسألني عن حكاية “نعطيك قهوتك” أو “اعطيني قهوتي” لأنها قهوة باهظة الثمن رائحتها لا تروق لي وفيها شكوك وتشوبها الشوائب وقد تؤدي الى الحرمان من القهوة الى الأبد.

هل يوجد في الجنة قهوة؟ لم اصادف العبارة في ما تلوت من قرآن كريم. ولكني اذكر أنني كنت اخالني في الجنة وانا في منزل حبيبتي ارشف فنجان القهوة التي صاغتها يمناها وأمني مع كل رشفة، رشفة برشفة ومع رشقة النظرات يمتشق خيالي أجمل حلله…ويذهب بي رويدا مع السنين لأجد رفيقة دربي نفسها قهوة ادمان ومن حولنا وصال ومحمد أمين لا يشربان سوى قهوة الصغار ويتركون لي قهوة الكبار.

كبرت مع تلك القهوة، أقصد مع تلك المرأة التي أحببت منذ الصبى. صغتها أملا رافقني كبر معي لم تتغير نكهتها، هي ذاتها أصالتها. ألم أقل لكم ان القهوة هي بنت العشق، فيها الأمل والصرة تهدينا من سمرتها بياض الحلم وشغف الحياة.

بمرارة القهوة الخالية من سكر الشغل، للبطال قصة مخالفة مع القهوة والمقهى. القهوة عنده قاتلة الوقت تصد قاتلي الاحلام تخفف الوجع وتسكن الألم وتؤنس الوحدة وتشرب مع الصبر رشفة رشفة.

مازلت مع قهوتي…

أمنيات مسافر لم يسافر…بداية استكشاف العالم

ربما لست الوحيد، ولكني من بين فئة قليلة من أبناء تونس وتحديدا أبناء القيروان الّذين لم تتح لهم فرصة السفر الى خارج تونس. كانت أول مرة أغادر فيها مسقط رأسي بالقيروان،  بشكل مطول هي تحولي للدراسة  بتونس العاصمة. معهد الصحافة وعلوم الاخبار بتونس الذي اخترت أن أدرس فيهه اختصاصا قربته الى نفسي من بين الاختصاصات الاخرى ومنها المحاماة. فكانت مهنة المتاعب كما نبهنا اساتذتنا وزملاء المهنة الذين تعبوا قبلنا.

في العاصمة مكثت 4 سنوات من سبتمبر 1999 الى ديسمبر 2003. كانت فترة قصيرة ولكن ذكرياتها الطويلة أرهقتني نفسيا وبدنيّا. الظروف المادية والاجتماعية كانت ضعيفة بل صعبة. والدتي المريضة التي تركتها تنتظر العلاج، كانت تحتاج الى دواء اشتريت بعضه لها من المنحة الجامعية التي كنت ادخر منها رغم قلتها ورغم صعوبة العييش في العاصمة. كان المطعم الجامعي اكثر مكان اتردد اليه مع بعض الاصدقاء والزملاء أمثالي الذين جاؤوا من مناطق داخلية. كانت ظروفنا متشابهة ومتقاربة نتنافس على أبسط الامكانيات مثل ثياب جديدة او حذاء عند صرف المنحة.

لم يكن السكن الجامعي مريحا. واكتراء منزل لم يكن افضل حل لمن لا يمتلك ثمن الكراء ومصاريف التنقل. لكن بقيت ذكريات المبيت الجامعي راسخة. كانت امكانية السفر متاحة فقط في الخيال. راودني حلم السفر بالحاح في مناسبتين. الاولى مناسبة قبول طلبة للسفر الى كندا والثانية كانت اصعب وهي فكرة الحت الى ان تركتها وهي فكرة السفر الى العراق ابان الاجتياح الامريكي لارض دجلة والفرات.

ذكريات الدراسة كانت كثيرة. بعضها أليمة. يخفف ألمها خبر النجاح. ينفتح باب الأمل قليلا وتنفرج مع التخرج ثم تعود الغيوب تغشى سماء عاطل عن العمل. خيرت قضاء فترة البطالة في منزل الوالدين بعد رحلة من البحث عن شغل وموقع بين الصحف اليومية. لم يكن لدي معارف او وساطات. اتذكر بعض زملائي ممن فتحت لهم الابواب فتحا وبعضهم فتح هو الباب وبعضهم الاخر خلعه,

اما الاخرون فبقوا خلف الباب في الانتظار. لم اكن اريد قضاء فترات البطالة بلا منحة او مورد مالي وانا في العاصمة. وقد ندمت يومها على شراء ذلك الهاتف الجوال الذي لم استحقه ولكنني اشريته لارضاء نفسي الفقيرة الحزينة. وقد كان يومها علامة الثراء والرخاء.

بعد فترة البطالة وسنوات من تجربة العمل. تأتي فترة تأسيس أسرة جميلة هي أفضل ما في الوجود رغم الحاح المطالب وضغط الظروف. لا بأس كنت أقول دوما لا بأس واحمد الله بما في ذلك على تمطط العمر باتجاه الكهولة. كنت شابا عندما تزوجت. يقول لي الاصدفاء 27 سنة وتتزوج هذا جيد ويقول اخرون مازالت صغيرا. في نفسي كنت سعيدا لانني حققت ثاني هدف بعد الشغل وهو الزواج.

بقي الحلم الثالث. انه السفر. مازال حلم السفر يلح ويراوح بين القرب والابتعاد. وكنت اظن انني عندما استخرجت جواز السفر عام 2005 للمرة الثانية وقمت بتجديده أنني ساغادر تونس باتجاه احدى الدول. يوما طرات فكرة السفر الى كندا مرة اخرى باقتراح من صديق يمر بحالة يأس. رافقتني الفكرة وسيطرت على مداركي. ولكن قرب الزواج حسم الأمر. وأجلت تحقيق الحلم. كما اجلته في مناسبة اولى عند الحصول على شهادة الباكالوريا. وقتها كنت اتوقع ان تفتح ابواب السماء سفرا من اجل الدراسة في الخارج.

سنة 2010 انتهت صلوحية زواج السفر. وجاءت ثورة تونس وثورات الربيع العربي كلها الواحدة تلو الاخرى. وبقي جواز السفر وحيدا بلا صلاحيات سفر ولا تأشيرة.

وبعد 4 سنوات من وحدة جواز السفر قررت تجديد الحلم للمرة الثالثة. جواز السفر يبدو انه أتى بحلم سيتحقق قريبا خلال شهر نوفمر. ساترك الحلم سرا خشية سرقته. في القلب فرحة مترددة وحيرة حول تفاصيل السفر.

لم اركب طائرة ولكنني رايتها مرارا. ولم أركب سوى القطارات لمسافة قليلة اطولها بين تونس وسوسة. ولم اركب المراكب سوى البطاح الرابط بين جربة ومدنين.  لا أعلم ماذا يحدث خارج تونس في العالم سوى عبر الصورة. أحدث نفسي بأنه علي أن أشاهد وأطالع وأحفظ حتى لا أتوه.

تلك بعض أمنيات مسافر لم يسافر.