سماحة المفتي أفتنا…متى عيد غزة؟

أعلن سماحة مفتي الجمهورية التونسية ان يوم العيد هو يوم الاثنين 29 جويلية. أعلن ذلك رغم أنه تعذر عليه رؤية هلال العيد. أعلن ذلك مخالفا القاعدة الفقهية وهي اتمام ال30 يوما عند تعذر الرؤية. ولكن سماحة مفتي الديار التونسية الذي لا نراه سوى مطلع رمضان ومطلع العيد اتجه نحو تكريس الوحدة العربية والاسلامية وهذا جميل ومستحب بل هو حلم نروم له التحقق. خاصة وأن السعودية وقطر وغيرهما من الدول الخليجية قررت ان يكون يوم الاثنين هو يوم العيد.

لست أخالف سماحة المفتي في علمه وفقهه ورؤياه التي قد يكون راها في منامه ليلا . فقط أردت لو انه تمكن أيضا من أن يخبرنا متى يحين عيد غزة.

سماحة المفتي متى يحل عيد غزّة؟

متى تهل فرحة غزة؟

ومتى نتوحد مع غزة؟

أو ليس من حق أطفال غزة  أن يفرحوا وأن يكون لهم عيد؟

ربما تعذر على سماحة المفتي رؤية هلال غزة المضاءة بنيران الصواريخ… ربما تعذر على سماحة المفتي رؤية هلال غزة لأنه ضعيف النظر ولا سيما في اتجاه بيت المقدس. هل تراه يذكر ان القدس محتلة؟
هل تراه يذكر أن رحلة الاسراء والمعراج انطلقت من بيت المقدس؟

هل يستطيع سماحة المفتي أن يحدد نصاب صدقة الفطر في غزة؟
ليتك سماحة المفتي وحدت بيننا وبين شعب غزة…ليتك جعلتنا نقاسمهم الفرحة كما يشاطروننا الفخر عند انتصارهم…كما يقاسموننا شموخهم وشهامتهم… كما يحفظون ماء وجوهنا.

سماحة المفتي هل رأيت دموع الثكالى في غزة ام تعذرت عليك الرؤية وخانتك الرؤيا؟

هل رأيت الطفل يرتدي ملابس العيد وهو شهيد…يلبس الكفن عيدا يا سماحة المفتي؟
أفتنا يا سماحة المفتي، اذا ذهب ماء الوجه وماء الحياء، هل يجوز أن نتيمم بتراب فلسطين أم ان التراب المقدس يحرقنا؟
أفتنا يا سماحة المفتي هل تجوز لنا مشاهدة الدماء، دماء الشهداء في غزة يوم العيد أم هي تعكر فرحتنا؟
أفتنا يا سماحة المفتي هل يجوز ان نصوم مع اخوتنا في غزة ونقاطع العيد معهم أم أن الصوم يوم العيد يفسد وحدتنا؟
أفتنا يا سماحة المفتي أي هلال نعتمد، وأي جرح نداوي وأي دم نحقن وأي شهيد ندفن؟
أفتنا يا سماحة المفتي هل يجوز دفن الشهيد يوم العيد أم نؤجل العيد؟

سماحة المفتي هل في رؤياك ما يشير الى هلال غزة متى يهل بالعيد؟

وهل في رؤياك الصالحة موعد لتتحقق الوحدة العربية والاسلامية لنصرة غزة؟

لمتى تنصر فتواك المظلوم والمقهور وتعاقب الظالم الجاني ؟
سيدي المفتي لا تتعب نفسك فجواب الغير معلن طرق مسامعنا وعلمنا أن الرؤية تعذرت بسبب وأن الرؤى اعتذرت دون سبب.
ناجح الزغدودي

رمضان في القيروان، ذاكرة حضارة وعادات حاضرة

ناجح الزغدودي

ما تزال القيروان، الّتي توصف بكونها عاصمة إسلاميّة، تحتفظ بذاكرة احتفاليّة متميّزة خلال شهر رمضان منها عادات وتقاليد غذائيّة واجتماعيّة واقتصاديّة واحتفالات وأجواء روحانيّة تعيشها هذه المدينة وتجعلها قبلة الزوّار ومحطّ أنظار.

احتفاء أهالي القيروان بشهر رمضان، له تحضيرات تسبق قدومه بأيّام. اعداد “العولة” وهي عمليّة خزن المواد الغذائيّة التي يتم اعدادها بطريقة تقليديّة. تحضير مشتقات الحبوب التي يتم طبخها في شهر رمضان والتوابل لإضفاء نكهة زكيّة على المأكولات لإرضاء شهيّة الاكل. كما يتمّ تحضير الاواني النحاسيّة التي تحرص العائلات القيروانيّة على ان تكون جزءا من جهاز العروس. علاوة على الزينة التي تجرى على المساكن والمساجد والمعالم الدّينيّة مثل من يستعد لإقامة عرس.

ويستقبل شهر رمضان، استقبال الضيوف كما جرت عليه عادة أهل المدينة استئناسا بمزيج من العادات العثمانيّة والفاطميّة والبربريّة. فمدفع رمضان الذي يعود للعهد العثماني، لا يزال يحافظ على مكانه في أعلى برج سور القيروان، يسمى “بريجة” الذي أعيد بناؤه في العهد الحسيني. وهو عبارة عن حشو من البارود يطلق في الهواء فيعلن صوته لأهل المدينة عن بدء الافطار وحلول الإمساك، ويأذن وميضه للقاطنين في محيط المدينة بتلك المواعيد. ويوحّد المدفع المواقيت ويؤنس لحظات الإفطار. ولتلك الغايات احتج بعض أهالي القيروان ضد قرار منع المدفع في ولايات الجمهورية. وقد أستثنيت القيروان من قرار المنع، جريا على تلك العادات.

مساجد وساحات ومقاه

تتضاعف الإنارة في شهر رمضان، بلمسات من المجلس البلدي، ولكن بدرجة أكثر استجابة المحلات التجاريّة والمقاهي لرغبات الحركيّة التي تشهدها مدينة القيروان بعد الافطار. وتتنافس المقاهي والمساجد التي تتقارب في العدد، في استقبال المواطنين.

من مآذن المساجد يعلو ترتيل القرآن في صلاة التراويح. ويستقطب جامع عقبة بن نافع، وهو أوّل مسجد وضع الفاتحون حجر أساسه قبل 1400 عام، زوّاره من محافظات مختلفة وكذلك ضيوفا من الجزائر وليبيا ومن بعض دول الخليج. ويحافظ الجامع والمصلّين والأئمة على طابع الاعتدال ونبذ التطرّف وهو الوحيد الذي تشرف عليه لجنة تنظيم. وهو الى جانب كونه مسجد للعبادة، فهو معلم أثري تعتبره منظمة اليونسكو تراثا عالميّا، الى جانب معالم أخرى ومنها فسقيّة الأغالبة والمدينة العتيقة وسور القيروان ومعالم دينيّة منها مسجد الأنصاري، بني قبل بناء جامع عقبة بن نافع.

ساعتان بعد موعد الإفطار، تدبّ حركة كبيرة وسط مدينة القيروان. تخرج العائلات الى الساحات العامّة. أبرزها ساحة أبي زمعة البلوي، وساحة اولاد فرحان وباب الجلادين. وتستهوي المقاهي أعدادا مهولة من الناس، تنافس في فترة بث مقابلات المونديال الملاعب العالميّة. تحتلّ كامل الرصيف وأجزاء من الطريق المعبّد لتوفر أماكن لحرفائها. ولا تفوّت المقاهي فرصة توفير شاشات عملاقة لجذب هواة كرة القدم. وكانت المقابلة الوحيدة التي وحدت جمهور المقاهي، هي مقابلة الفريق الجزائري ضد الفريق الألماني، بعدها انقسمت الجماهير في تشجيع الفرق.  وهناك مقاه جديدة فتحت خصّيصا بمناسبة شهر رمضان، كما فتحت محلات تجاريّة كثيرة بهذه المناسبة.

ملابس وحلويات العيد

تتضاعف المعاملات التّجاريّة في شهر رمضان. وتنقسم المشتريات حسب الفترات بداية من شهر رمضان وصولا الى عيد الفطر. فاهتمام العائلات ينصب خلال الأيام الأولى من شهر رمضان على شراء كل ما يهمّ الأطعمة. حرص على اقتناء اللحوم بأنواعها والغلال مع تجديد الاواني النحاسيّة والخزفيّة. وتعرف القيروان بصناعة النحاس المطروق، وهي اواني نحاسيّة تصنع يدويّا ويخصص لها حي حرفي وسوق يسمّى “النحّاسين”، يأتي الزوار من كل مكان.

 

الى غاية النّصف الأوّل من شهر رمضان، تنشغل العائلات بتصنيف شتى انواع الأطعمة التي توفر طاقة وغذاء للصائمين، ومنهم الأطفال الذين يبدأون في تجربة الصوم من سن ال12 من أعمارهم. ومع انتصاف شهر رمضان وإطلالة البدر المتمم للهلال، تمرّ العائلات في القيروان إلى عادات أخرى، وهي عادة صنع الحلويّات. وتنشط الحركيّة التجاريّة.

ليست حلويّات المقروض المعروضة بأصنافها الشهيّة وألوانها المغرية للصائمين، والتي تشتهر بها القيروان وتصدرها للأسواق الأوروبية هي وحدها ما تتميّز به أطباق الحلويّات في القيروان. فالعائلات تصنع أصنافا لذيذة من أطباق الحلويات (حلويّات “الغريبة”  والمقروض وكعك ورقة وصمصة وبقلاوة وقطايف وغيرها…) وجميعها معطرة بالزهر وماء الورد والعطرشاء التي يتم تقطيرها (استخراجها) من الزهور العطريّة، ولأهل القيروان في هذا المجال عادات أخرى. والمحدد لصنف الحلويّات هي القدرات الماديّة وما توارثته من أصل تركي أم فاطمي أم أندلسي وأخرى خليط بين ثقافات امتزجت وتماهت.

تتبادل العائلات أطباق الحلويات من الصناعة المنزليّة، ويصل التنافس بين العائلات الى حدّ التباهي والتفاخر بالعتيق والأصيل والباهظ من الاصناف. وقد حوّلت بعض العائلات منازلها الى مصنع للحلويات وذاع صيتها ونافست كبريات محلاّت بيع وصناعة الحلويّات، وفاقتها جودة وعتاقة.

مواسم ومراسم

منتصف شهر رمضان، هو أيضا مناسبة دينيّة واجتماعيّة لها طقوس متوارثة من بينها اخراج  طعام الفقراء” وهي صدقة تخرج عن الموتى لفائدة الفقراء. وتتمّثل في كسكسي بربريّ السّمات بلحم الضأن يهدى للعائلات الفقيرة قبل موعد الإفطار في أطباق أو يرسل للمساجد مرفقا بالخبز القيرواني الشهير.

تنشط كذلك بداية من “ليلة النصف” أسواق المدينة العتيقة التي توجد محلات المصوغ، وتعرض للمقبلين على الزواج بعد العيد، آخر الابتكارات رغم غلاء الأسعار. كما تضاعف محلات بيع الملابس الجاهزة والأحذية من أضوائها ومن تنوّع الأذواق. وتوجه اهتمامها نحو الملابس الشبابيّة وملابس الأطفال. وقد برزت عديد المحلات الجديدة في نقاط مختلفة خالفت الاهتمام المرتكز على الحي التجاري. وأصبح هناك نيابات للماركات العالميّة.

ينفّر ارتفاع الأسعار الذي العائلات ضعيفة الدّخل، فتجد في الأسواق التي تنتصب بشكل استثنائي في شهر رمضان، ملاذا أقلّ سعرا وأكثر تنوّعا. وتعرض الاسواق ملابس مستوردة من تركيا وسوريا ومن الصّين مثل تلك اللعب البلاستيكيّة والألعاب النارية التي تصدر أصواتا مزعجة أحيانا لكنه من نوافل شهر رمضان والأجواء الرائقة.

وتنشط هذه الأسواق بساحة باب الجلادين وعلى طول سور المدينة العتيقة. وتصفح المراقبة البلديّة عن الانتصاب غير القانوني، لكن تسهر الفرق الأمنيّة على تأمين الأسواق ومراقبة النقاط التي تشهد كثافة في عدد السّاهرين والحرفاء، خاصّة تزامنا مع التهديدات الارهابيّة التي تصاعدت وتيرتها في شهر رمضان وحصدت أرواح تونسيين من الجيش والأمن التونسييّن. وقد أفسدت مشاهد الدماء مظاهر الفرحة والمرح كما عكرت مشاهد الموت والدمار القادم من “غزة”، من رونق الأجواء والمهرجانات والعروض الثقافيّة التي نظمتها عديد الجمعيّات الأهليّة.

_DSC0101

يأسف شيوخ المدينة المتمسكون باللباس التقليدي، عن تراجع الإهتمام بالملابس التقليدية في القيروان، خلال شهر رمضان وخارجه. يتمسّك بعض كبار السن من الرّجال بالجبة التقليديّة والشاشيّة والأحذية الجلديّة وهيآتهم العتيقة في مقهى عراك بالمدينة العتيقة الذي احتفى بمئويّة تأسيسه. كما تحافظ بعض النساء على لباس الحايك ولكن عددهن قليل في وسارع الميدنة العتيقة. وقد اغلت محلات كثيرة في سوق الجرابة العتيقة كانت تصنع تلك الملابس وغيرها من المنسوجات، وغيرت من طبيعة نشاطها بسبب ضعف الاقبال واكتساح المصنوعات، في حين اصبح محلات اخرى تبيع ملابس ومنسوجات من مصانع مدينة قصر هلال التونسيّة. ومع ذلك حافظت بعض النسوة على خياطة ملابسهن لدى محلات الخياطة وخصوصا ملابس التدين مثل الحجاب والنقاب. وهناك محلات كثيرة برزت ولم يكن  ذلك مسموحا قبل الثورة.

يقضي الصائمون أكثر من نصف اليوم في حالة صيام، وبالليل يلتمسون مظاهرة الترفيه عن النفس والترويح عن الأطفال والتماس ما ينعش الجسم المرهق بالنهار من نسمات الليل الباردة. وتنشط في رمضان بالقيروان، عديد الأنشطة الثقافية التي تشرف عليها هيئات مستقلّة ومؤسسات ثقافيّة رسميّة ضمن مهرجانات تسمى “ليالي الصّيف”. ورغم النقد اللاذع الموجه للبرامج الثقافيّة، فإنها تحقّق بعض الترفيه لبعض النّاس. وكان الاستثناء هذا العام، مبادرة مجموعة من الشباب الناشط في جمعيّات اهليّة بتنظيم “مهرجان رمضان القيروان”، تضمن عروضا فنيّة شبابيّة في الساحات العامة بالمدينة العتيقة وتظاهرة افطار جماعي ذو مقاصد تضامنيّة.

رمضان بطعم السياسة

العمل الإجتماعي في رمضان، من الاركان القارة. حيث تنشط موائد الافطار للعائلات الفقيرة وتوزع المساعدات الغذائيّة والماليّة تحت اشراف جمعيّات اهليّة. وتجمع المساعدات من تبرّعات المواطنين وتسلّم في شكل “قفّة رمضان” او موائد افطار. كما ساهمت العائلات بتقديم الاطعمة الجاهزة من بين طعامها وتقدمه للجمعيات، وهذا ما فعلته الكشافة بالقيروان، ويتم وضعه في اطباق وتوزيعه. ورغم الانتقاد الموجه لبعض الجمعيات وتهم الدعاية الحزبيّة، من بعض الأطراف المنتقدة فإنّ خدماتها كانت محلّ تنويه وإشادة من طرف آخر. وهذا جزء من التجاذب السياسي الجاري على أشدّه، خصوصا مع انطلاق العمليّة الانتخابيّة ونشاط الأحزاب والجمعيّات في عمليّات التسجيل.

_DSC0108

والتطوّع لختان الأطفال الفقراء وغيرهم بشكل جماعي في ليلة 27 من رمضان، المرجح أنها “ليلة القدر” في معتقدات المسلمين، يعدّ من الفضائل المتوارثة رغم ما يقال عن ارتباط بعض تفاصيلها عن نظام ما قبل الثورة. ولكن ثبت أنّها عادات اجتماعيّة غرضها الأوّل هو المساعدة وكسب ما يعتقد دينيّا أنّه ثواب أخروي ورضاء للضمير. وتقام لعمليّات الختان الجماعي التي تقام بمقام الصحابي أبي زمعة البلوي، ما يشبه المهرجان المراوح بين العرض الموسيقي الانشادي والزغاريد وطبول الاحتفال بهذا المنسك.

الصداق القيرواني

وان كان يعتقد أن لحفلات الختان في رمضان، قيمة معنويّة واجتماعيّة وبركة دينيّة، فإن لمواسم الخطبة وعقد القران، وفق الصداق القيرواني، عادة نسبة الى صداق أروى القيروانيّة بالخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور، مظهر آخر من أفراح شهر رمضان المتوارثة عادة واعتقادا خصوصا عندما تقام بجامع الزيتونة العتيق أو جامع عقبة بن نافع أو مقام الصحابي أبي زمعة البلوي.

ويخصص يوم العيد للزيارات العائليّة وإهداء الحلويّات. والترفيه عن الاطفال في مدينة الالعاب وتنفيلهم باللعب والملابس الجديدة. ولا يمرّ اليوم الثالث من العيد إلا وتعلن حفلات الأعراس وتتجه انظار العائلات الى الشاطئ لنيل نصيب من الاستجمام واسترجاع النشاط بعد شهر من الصّيام الذي يمتزج فيه ارهاق الجسم بنفحات معنويّة رائقة.

القيروان في ليلة القدر: مدينتي هي الأجمل

عندما تلتقي نفحات ليلة خير من الف شهر مع مدينة مثل القيروان، أوّل قبلة اسلامية في تونس وافريقية، فانه لاشك ستكون هناك اجواء احتفاليّة رائعة.

أعداد كبيرة من العائلات التونسية من كامل انحاء الجمهورية ومن المواطنين المقيمين بالخارج وتوافدوا على المعالم الاسلامية مثل جامع عقبة بن نافع ومقام ابي زمعة البلوي وسط اجواء عالمية مفعمة بالفرحة والنفحات وسط تعزيزات امنية منتشرة في مختلف النقاط بولاية القيروان.

غابت الاحتفالات الرسمية على مستوى وطنية وسط تبريرات امنية، لكن الواقع فند تلك المخاوف والمزاعم. فالناس يتجولون وسط مدينة القيروان فرادى وجماعات وسط اجواء احتفالية وتواجد امنية مكثف للشرطة العدلية ووحدات التدخل وشرطة النجدة. هؤلاء لم يمنعهم بعد المسافات ومخاوف الطريق من التنقل ليشهدوا مناسك ليلة القدر ويلتمسوا نفحاتها محافظين على عادات راسخة وطالبين لخصوصيات لا تتوفر سوى في القيروان، عاصمة الاسلام الاولى ورابع قبلة في العالم.

الاحتفاء بليلة القدر، نحى منحى جهويا وحافظ على طابعه العفوي بفضل غياب المراقبة الامنية المشددة التي ترافق زيارات الوزراء والرؤساء. فكانت اجواء اكثر تلقائيّة وحميمية واجتماعيّة.

ففي جامع عقبة بن نافع، منارة الاسلام والعلم والقرآن، ومثل بقية المساجد، تم ختم تلاوة القرآن الكريم في صلاة التراويح. ومن بعدها انتظم حفل توزيع جوائز مسابقة حفظ وترتيل القرآن الكريم الذي مازال ينير قلوب الشبان ويستهويهم ومنهم من قدم من بلدان افريقية، لتحافظ القيروان على دورها العلمي. وهي مسابقة تقيمها الجمعية الجهوية للقرآن الكريم وتخصص لها جوائز قيمة وشهادات. واشرف على الحفل الاطارات الدينية الجهوية الى جانب عديد الشيوخ وأعضاء الجمعيّة.

على صعيد آخر شهد مقام ابي زمعة البلوي، الصحابي الجليل توافد عدد غفير من الناس ومن العائلات التي جاءت من معتمديات القيروان ومختلف الولايات لختان ابنائها بالمقام تيمنا بالمكان وتبركا كما دأبت عليها عاداتهم المسترسلة. وقد انتظروا الى حين انتهاء صلاة التراويح ليفدوا الى المقام فرادى وجماعات في موكب من الزغاريد ونقر الطبول والدربوكة وسط صراخ الأطفال المتألمين من الختان. وهنا تمتزج دموع الفرحة بدموع الاطفال فلا يهدأ من روعهم سوى الحلويات واللعب. وتختفي الوجوه خلف دخان البخور المتعالي. ولا يفوت الشبان فرصة للمزاح والمعاكسة.

النشاط التجاري شهد ازدهارا اكبر من بقية الليالي في هذه الليلة المباركة. انها ليلة موسم يحمل فيه الخاطب هدية لخطيبته. وتنتصب الاسواق التجارية عارضة مختلف المنتوجات المستوردة من ملابس وأحذية متنوعة الماركات من تركيا وسوريا ومن آسيا، ومواد تجميل وزينة ولعب للاطفال مختلفة بين الالعاب النارية والبالونات وجميعها صينية الصنع وحلويات.

وتنشط هذه الاسواق الموازية بباب الجلادين خصوصا وعلى طول سور المدينة العتيقة باتجاه باب الجديد. وتنافس هذه المعروضات بضائع المحلات التجارية من حيث السعر. وتضطر العائلات الى اقتناء رغبات الاطفال من ملابس العيد من هذه المعارض الموازية بسبب ضغط الاسعار المتعالية على جيب المواطن.

يستغل اعوان التسجيل والناشطين في الجمعيات الاهلية المتطوعون لتسجيل الناخبين، هذه الحركية الكثيفة فينصبون خيمات التسجيل ويعلو صوت الداعي الى التسجيل عبر مكبرات الصوت. وقد انتصبت خيمات وسط ساحة باب الجلادين تجامل رواد المقهى المقابل تارة وتغازل عاطفة ارباب العائلات. في حين تنافس خيمة أخرى فرقة السلامية التي تقدم عرضا فلكلوريا.

كان هناك انتشار امني موسع. تم ايقاف بعض الاشخاص المفتش عنهم. لاشيء يمكن ان يبث الخوف أو يذهب امان المواطنين كما بررت الجهات الرسمية الغائها لزيارة القيروان. فقد عمت الفرحة والبهجة ولم يؤثر قرار غلق المساجد في الاحتفاء بليلة القدر وفي سائر العبادات لانه في القيروان تم غلق مسجد وحيد حسب الواعظ الجهوي الذي افاد انه غلق وقتي.

هذا نزر قليل من اجواء مدينة القيروان. المدينة التي افكر في هجرها بسبب سلبية بعض اهلها ولكن وان هجرتها فهي الاجمل وهي الاحب الى قلبي.

 

 

أمنيات مسافر لم يسافر…بداية استكشاف العالم

ربما لست الوحيد، ولكني من بين فئة قليلة من أبناء تونس وتحديدا أبناء القيروان الّذين لم تتح لهم فرصة السفر الى خارج تونس. كانت أول مرة أغادر فيها مسقط رأسي بالقيروان،  بشكل مطول هي تحولي للدراسة  بتونس العاصمة. معهد الصحافة وعلوم الاخبار بتونس الذي اخترت أن أدرس فيهه اختصاصا قربته الى نفسي من بين الاختصاصات الاخرى ومنها المحاماة. فكانت مهنة المتاعب كما نبهنا اساتذتنا وزملاء المهنة الذين تعبوا قبلنا.

في العاصمة مكثت 4 سنوات من سبتمبر 1999 الى ديسمبر 2003. كانت فترة قصيرة ولكن ذكرياتها الطويلة أرهقتني نفسيا وبدنيّا. الظروف المادية والاجتماعية كانت ضعيفة بل صعبة. والدتي المريضة التي تركتها تنتظر العلاج، كانت تحتاج الى دواء اشتريت بعضه لها من المنحة الجامعية التي كنت ادخر منها رغم قلتها ورغم صعوبة العييش في العاصمة. كان المطعم الجامعي اكثر مكان اتردد اليه مع بعض الاصدقاء والزملاء أمثالي الذين جاؤوا من مناطق داخلية. كانت ظروفنا متشابهة ومتقاربة نتنافس على أبسط الامكانيات مثل ثياب جديدة او حذاء عند صرف المنحة.

لم يكن السكن الجامعي مريحا. واكتراء منزل لم يكن افضل حل لمن لا يمتلك ثمن الكراء ومصاريف التنقل. لكن بقيت ذكريات المبيت الجامعي راسخة. كانت امكانية السفر متاحة فقط في الخيال. راودني حلم السفر بالحاح في مناسبتين. الاولى مناسبة قبول طلبة للسفر الى كندا والثانية كانت اصعب وهي فكرة الحت الى ان تركتها وهي فكرة السفر الى العراق ابان الاجتياح الامريكي لارض دجلة والفرات.

ذكريات الدراسة كانت كثيرة. بعضها أليمة. يخفف ألمها خبر النجاح. ينفتح باب الأمل قليلا وتنفرج مع التخرج ثم تعود الغيوب تغشى سماء عاطل عن العمل. خيرت قضاء فترة البطالة في منزل الوالدين بعد رحلة من البحث عن شغل وموقع بين الصحف اليومية. لم يكن لدي معارف او وساطات. اتذكر بعض زملائي ممن فتحت لهم الابواب فتحا وبعضهم فتح هو الباب وبعضهم الاخر خلعه,

اما الاخرون فبقوا خلف الباب في الانتظار. لم اكن اريد قضاء فترات البطالة بلا منحة او مورد مالي وانا في العاصمة. وقد ندمت يومها على شراء ذلك الهاتف الجوال الذي لم استحقه ولكنني اشريته لارضاء نفسي الفقيرة الحزينة. وقد كان يومها علامة الثراء والرخاء.

بعد فترة البطالة وسنوات من تجربة العمل. تأتي فترة تأسيس أسرة جميلة هي أفضل ما في الوجود رغم الحاح المطالب وضغط الظروف. لا بأس كنت أقول دوما لا بأس واحمد الله بما في ذلك على تمطط العمر باتجاه الكهولة. كنت شابا عندما تزوجت. يقول لي الاصدفاء 27 سنة وتتزوج هذا جيد ويقول اخرون مازالت صغيرا. في نفسي كنت سعيدا لانني حققت ثاني هدف بعد الشغل وهو الزواج.

بقي الحلم الثالث. انه السفر. مازال حلم السفر يلح ويراوح بين القرب والابتعاد. وكنت اظن انني عندما استخرجت جواز السفر عام 2005 للمرة الثانية وقمت بتجديده أنني ساغادر تونس باتجاه احدى الدول. يوما طرات فكرة السفر الى كندا مرة اخرى باقتراح من صديق يمر بحالة يأس. رافقتني الفكرة وسيطرت على مداركي. ولكن قرب الزواج حسم الأمر. وأجلت تحقيق الحلم. كما اجلته في مناسبة اولى عند الحصول على شهادة الباكالوريا. وقتها كنت اتوقع ان تفتح ابواب السماء سفرا من اجل الدراسة في الخارج.

سنة 2010 انتهت صلوحية زواج السفر. وجاءت ثورة تونس وثورات الربيع العربي كلها الواحدة تلو الاخرى. وبقي جواز السفر وحيدا بلا صلاحيات سفر ولا تأشيرة.

وبعد 4 سنوات من وحدة جواز السفر قررت تجديد الحلم للمرة الثالثة. جواز السفر يبدو انه أتى بحلم سيتحقق قريبا خلال شهر نوفمر. ساترك الحلم سرا خشية سرقته. في القلب فرحة مترددة وحيرة حول تفاصيل السفر.

لم اركب طائرة ولكنني رايتها مرارا. ولم أركب سوى القطارات لمسافة قليلة اطولها بين تونس وسوسة. ولم اركب المراكب سوى البطاح الرابط بين جربة ومدنين.  لا أعلم ماذا يحدث خارج تونس في العالم سوى عبر الصورة. أحدث نفسي بأنه علي أن أشاهد وأطالع وأحفظ حتى لا أتوه.

تلك بعض أمنيات مسافر لم يسافر.