رمضان في القيروان، ذاكرة حضارة وعادات حاضرة

ناجح الزغدودي

ما تزال القيروان، الّتي توصف بكونها عاصمة إسلاميّة، تحتفظ بذاكرة احتفاليّة متميّزة خلال شهر رمضان منها عادات وتقاليد غذائيّة واجتماعيّة واقتصاديّة واحتفالات وأجواء روحانيّة تعيشها هذه المدينة وتجعلها قبلة الزوّار ومحطّ أنظار.

احتفاء أهالي القيروان بشهر رمضان، له تحضيرات تسبق قدومه بأيّام. اعداد “العولة” وهي عمليّة خزن المواد الغذائيّة التي يتم اعدادها بطريقة تقليديّة. تحضير مشتقات الحبوب التي يتم طبخها في شهر رمضان والتوابل لإضفاء نكهة زكيّة على المأكولات لإرضاء شهيّة الاكل. كما يتمّ تحضير الاواني النحاسيّة التي تحرص العائلات القيروانيّة على ان تكون جزءا من جهاز العروس. علاوة على الزينة التي تجرى على المساكن والمساجد والمعالم الدّينيّة مثل من يستعد لإقامة عرس.

ويستقبل شهر رمضان، استقبال الضيوف كما جرت عليه عادة أهل المدينة استئناسا بمزيج من العادات العثمانيّة والفاطميّة والبربريّة. فمدفع رمضان الذي يعود للعهد العثماني، لا يزال يحافظ على مكانه في أعلى برج سور القيروان، يسمى “بريجة” الذي أعيد بناؤه في العهد الحسيني. وهو عبارة عن حشو من البارود يطلق في الهواء فيعلن صوته لأهل المدينة عن بدء الافطار وحلول الإمساك، ويأذن وميضه للقاطنين في محيط المدينة بتلك المواعيد. ويوحّد المدفع المواقيت ويؤنس لحظات الإفطار. ولتلك الغايات احتج بعض أهالي القيروان ضد قرار منع المدفع في ولايات الجمهورية. وقد أستثنيت القيروان من قرار المنع، جريا على تلك العادات.

مساجد وساحات ومقاه

تتضاعف الإنارة في شهر رمضان، بلمسات من المجلس البلدي، ولكن بدرجة أكثر استجابة المحلات التجاريّة والمقاهي لرغبات الحركيّة التي تشهدها مدينة القيروان بعد الافطار. وتتنافس المقاهي والمساجد التي تتقارب في العدد، في استقبال المواطنين.

من مآذن المساجد يعلو ترتيل القرآن في صلاة التراويح. ويستقطب جامع عقبة بن نافع، وهو أوّل مسجد وضع الفاتحون حجر أساسه قبل 1400 عام، زوّاره من محافظات مختلفة وكذلك ضيوفا من الجزائر وليبيا ومن بعض دول الخليج. ويحافظ الجامع والمصلّين والأئمة على طابع الاعتدال ونبذ التطرّف وهو الوحيد الذي تشرف عليه لجنة تنظيم. وهو الى جانب كونه مسجد للعبادة، فهو معلم أثري تعتبره منظمة اليونسكو تراثا عالميّا، الى جانب معالم أخرى ومنها فسقيّة الأغالبة والمدينة العتيقة وسور القيروان ومعالم دينيّة منها مسجد الأنصاري، بني قبل بناء جامع عقبة بن نافع.

ساعتان بعد موعد الإفطار، تدبّ حركة كبيرة وسط مدينة القيروان. تخرج العائلات الى الساحات العامّة. أبرزها ساحة أبي زمعة البلوي، وساحة اولاد فرحان وباب الجلادين. وتستهوي المقاهي أعدادا مهولة من الناس، تنافس في فترة بث مقابلات المونديال الملاعب العالميّة. تحتلّ كامل الرصيف وأجزاء من الطريق المعبّد لتوفر أماكن لحرفائها. ولا تفوّت المقاهي فرصة توفير شاشات عملاقة لجذب هواة كرة القدم. وكانت المقابلة الوحيدة التي وحدت جمهور المقاهي، هي مقابلة الفريق الجزائري ضد الفريق الألماني، بعدها انقسمت الجماهير في تشجيع الفرق.  وهناك مقاه جديدة فتحت خصّيصا بمناسبة شهر رمضان، كما فتحت محلات تجاريّة كثيرة بهذه المناسبة.

ملابس وحلويات العيد

تتضاعف المعاملات التّجاريّة في شهر رمضان. وتنقسم المشتريات حسب الفترات بداية من شهر رمضان وصولا الى عيد الفطر. فاهتمام العائلات ينصب خلال الأيام الأولى من شهر رمضان على شراء كل ما يهمّ الأطعمة. حرص على اقتناء اللحوم بأنواعها والغلال مع تجديد الاواني النحاسيّة والخزفيّة. وتعرف القيروان بصناعة النحاس المطروق، وهي اواني نحاسيّة تصنع يدويّا ويخصص لها حي حرفي وسوق يسمّى “النحّاسين”، يأتي الزوار من كل مكان.

 

الى غاية النّصف الأوّل من شهر رمضان، تنشغل العائلات بتصنيف شتى انواع الأطعمة التي توفر طاقة وغذاء للصائمين، ومنهم الأطفال الذين يبدأون في تجربة الصوم من سن ال12 من أعمارهم. ومع انتصاف شهر رمضان وإطلالة البدر المتمم للهلال، تمرّ العائلات في القيروان إلى عادات أخرى، وهي عادة صنع الحلويّات. وتنشط الحركيّة التجاريّة.

ليست حلويّات المقروض المعروضة بأصنافها الشهيّة وألوانها المغرية للصائمين، والتي تشتهر بها القيروان وتصدرها للأسواق الأوروبية هي وحدها ما تتميّز به أطباق الحلويّات في القيروان. فالعائلات تصنع أصنافا لذيذة من أطباق الحلويات (حلويّات “الغريبة”  والمقروض وكعك ورقة وصمصة وبقلاوة وقطايف وغيرها…) وجميعها معطرة بالزهر وماء الورد والعطرشاء التي يتم تقطيرها (استخراجها) من الزهور العطريّة، ولأهل القيروان في هذا المجال عادات أخرى. والمحدد لصنف الحلويّات هي القدرات الماديّة وما توارثته من أصل تركي أم فاطمي أم أندلسي وأخرى خليط بين ثقافات امتزجت وتماهت.

تتبادل العائلات أطباق الحلويات من الصناعة المنزليّة، ويصل التنافس بين العائلات الى حدّ التباهي والتفاخر بالعتيق والأصيل والباهظ من الاصناف. وقد حوّلت بعض العائلات منازلها الى مصنع للحلويات وذاع صيتها ونافست كبريات محلاّت بيع وصناعة الحلويّات، وفاقتها جودة وعتاقة.

مواسم ومراسم

منتصف شهر رمضان، هو أيضا مناسبة دينيّة واجتماعيّة لها طقوس متوارثة من بينها اخراج  طعام الفقراء” وهي صدقة تخرج عن الموتى لفائدة الفقراء. وتتمّثل في كسكسي بربريّ السّمات بلحم الضأن يهدى للعائلات الفقيرة قبل موعد الإفطار في أطباق أو يرسل للمساجد مرفقا بالخبز القيرواني الشهير.

تنشط كذلك بداية من “ليلة النصف” أسواق المدينة العتيقة التي توجد محلات المصوغ، وتعرض للمقبلين على الزواج بعد العيد، آخر الابتكارات رغم غلاء الأسعار. كما تضاعف محلات بيع الملابس الجاهزة والأحذية من أضوائها ومن تنوّع الأذواق. وتوجه اهتمامها نحو الملابس الشبابيّة وملابس الأطفال. وقد برزت عديد المحلات الجديدة في نقاط مختلفة خالفت الاهتمام المرتكز على الحي التجاري. وأصبح هناك نيابات للماركات العالميّة.

ينفّر ارتفاع الأسعار الذي العائلات ضعيفة الدّخل، فتجد في الأسواق التي تنتصب بشكل استثنائي في شهر رمضان، ملاذا أقلّ سعرا وأكثر تنوّعا. وتعرض الاسواق ملابس مستوردة من تركيا وسوريا ومن الصّين مثل تلك اللعب البلاستيكيّة والألعاب النارية التي تصدر أصواتا مزعجة أحيانا لكنه من نوافل شهر رمضان والأجواء الرائقة.

وتنشط هذه الأسواق بساحة باب الجلادين وعلى طول سور المدينة العتيقة. وتصفح المراقبة البلديّة عن الانتصاب غير القانوني، لكن تسهر الفرق الأمنيّة على تأمين الأسواق ومراقبة النقاط التي تشهد كثافة في عدد السّاهرين والحرفاء، خاصّة تزامنا مع التهديدات الارهابيّة التي تصاعدت وتيرتها في شهر رمضان وحصدت أرواح تونسيين من الجيش والأمن التونسييّن. وقد أفسدت مشاهد الدماء مظاهر الفرحة والمرح كما عكرت مشاهد الموت والدمار القادم من “غزة”، من رونق الأجواء والمهرجانات والعروض الثقافيّة التي نظمتها عديد الجمعيّات الأهليّة.

_DSC0101

يأسف شيوخ المدينة المتمسكون باللباس التقليدي، عن تراجع الإهتمام بالملابس التقليدية في القيروان، خلال شهر رمضان وخارجه. يتمسّك بعض كبار السن من الرّجال بالجبة التقليديّة والشاشيّة والأحذية الجلديّة وهيآتهم العتيقة في مقهى عراك بالمدينة العتيقة الذي احتفى بمئويّة تأسيسه. كما تحافظ بعض النساء على لباس الحايك ولكن عددهن قليل في وسارع الميدنة العتيقة. وقد اغلت محلات كثيرة في سوق الجرابة العتيقة كانت تصنع تلك الملابس وغيرها من المنسوجات، وغيرت من طبيعة نشاطها بسبب ضعف الاقبال واكتساح المصنوعات، في حين اصبح محلات اخرى تبيع ملابس ومنسوجات من مصانع مدينة قصر هلال التونسيّة. ومع ذلك حافظت بعض النسوة على خياطة ملابسهن لدى محلات الخياطة وخصوصا ملابس التدين مثل الحجاب والنقاب. وهناك محلات كثيرة برزت ولم يكن  ذلك مسموحا قبل الثورة.

يقضي الصائمون أكثر من نصف اليوم في حالة صيام، وبالليل يلتمسون مظاهرة الترفيه عن النفس والترويح عن الأطفال والتماس ما ينعش الجسم المرهق بالنهار من نسمات الليل الباردة. وتنشط في رمضان بالقيروان، عديد الأنشطة الثقافية التي تشرف عليها هيئات مستقلّة ومؤسسات ثقافيّة رسميّة ضمن مهرجانات تسمى “ليالي الصّيف”. ورغم النقد اللاذع الموجه للبرامج الثقافيّة، فإنها تحقّق بعض الترفيه لبعض النّاس. وكان الاستثناء هذا العام، مبادرة مجموعة من الشباب الناشط في جمعيّات اهليّة بتنظيم “مهرجان رمضان القيروان”، تضمن عروضا فنيّة شبابيّة في الساحات العامة بالمدينة العتيقة وتظاهرة افطار جماعي ذو مقاصد تضامنيّة.

رمضان بطعم السياسة

العمل الإجتماعي في رمضان، من الاركان القارة. حيث تنشط موائد الافطار للعائلات الفقيرة وتوزع المساعدات الغذائيّة والماليّة تحت اشراف جمعيّات اهليّة. وتجمع المساعدات من تبرّعات المواطنين وتسلّم في شكل “قفّة رمضان” او موائد افطار. كما ساهمت العائلات بتقديم الاطعمة الجاهزة من بين طعامها وتقدمه للجمعيات، وهذا ما فعلته الكشافة بالقيروان، ويتم وضعه في اطباق وتوزيعه. ورغم الانتقاد الموجه لبعض الجمعيات وتهم الدعاية الحزبيّة، من بعض الأطراف المنتقدة فإنّ خدماتها كانت محلّ تنويه وإشادة من طرف آخر. وهذا جزء من التجاذب السياسي الجاري على أشدّه، خصوصا مع انطلاق العمليّة الانتخابيّة ونشاط الأحزاب والجمعيّات في عمليّات التسجيل.

_DSC0108

والتطوّع لختان الأطفال الفقراء وغيرهم بشكل جماعي في ليلة 27 من رمضان، المرجح أنها “ليلة القدر” في معتقدات المسلمين، يعدّ من الفضائل المتوارثة رغم ما يقال عن ارتباط بعض تفاصيلها عن نظام ما قبل الثورة. ولكن ثبت أنّها عادات اجتماعيّة غرضها الأوّل هو المساعدة وكسب ما يعتقد دينيّا أنّه ثواب أخروي ورضاء للضمير. وتقام لعمليّات الختان الجماعي التي تقام بمقام الصحابي أبي زمعة البلوي، ما يشبه المهرجان المراوح بين العرض الموسيقي الانشادي والزغاريد وطبول الاحتفال بهذا المنسك.

الصداق القيرواني

وان كان يعتقد أن لحفلات الختان في رمضان، قيمة معنويّة واجتماعيّة وبركة دينيّة، فإن لمواسم الخطبة وعقد القران، وفق الصداق القيرواني، عادة نسبة الى صداق أروى القيروانيّة بالخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور، مظهر آخر من أفراح شهر رمضان المتوارثة عادة واعتقادا خصوصا عندما تقام بجامع الزيتونة العتيق أو جامع عقبة بن نافع أو مقام الصحابي أبي زمعة البلوي.

ويخصص يوم العيد للزيارات العائليّة وإهداء الحلويّات. والترفيه عن الاطفال في مدينة الالعاب وتنفيلهم باللعب والملابس الجديدة. ولا يمرّ اليوم الثالث من العيد إلا وتعلن حفلات الأعراس وتتجه انظار العائلات الى الشاطئ لنيل نصيب من الاستجمام واسترجاع النشاط بعد شهر من الصّيام الذي يمتزج فيه ارهاق الجسم بنفحات معنويّة رائقة.