الطاووس الأحمق وربيع القيروان

* كتب ناجح الزغدودي

ذكريات مضطرمة في ذهني عن مهرجان ربيع الفنون الدولي لعاصمة الأغالبة القيروان. لا اعرف تحديدا متى بدأت أنتبه لقيمته وأتابعه ولكن ما اذكره في طفولتي هو قصيدة نزار قباني التي أهداها للقيروان بصفتها أول عاصمة ترتكب فضيحة حب الشعر.

يومها كنت تلميذا في الثانوي وقصدت دار الثقافة على امل استراق النظر فاذا انا لا اقدر على استراق السمع من فرط حضور الناس شيبة وشبابا وتلاميذ مثلي. ثم أذكر محمود ياسين وليلى علوي وأسماء عديد اختلطت علي حديثا حتى لم أعد أمسك بأي اسم أو لا أكاد لأسباب عديدة. ربما لان الرعيل الاول من الفنانين كان يأتي الى القيروان حبا فيها وحبا لها وكرامة ومودة.

علمت بعدها أن حضور المعاصرين مدفوع الاجر منذ سيارة الاجرة التي ركبها في بلده الى حين ركوبها ثانية وهو عائد من المطار وبينهما مشاوير واقامة فاخرة في النزل لا ينالها أو يحلم بها اهل البلد. وضيافة هي من شيم الكرام ولكن يحضرها مبدعون من اهل المدينة كأنهم لئام. فلا نصيب لهم في الفن ولا في الكفن. وللمنظمين نصيب من النهب والنهم.

تابعت في عملي الصحفي الذي لم يتم السنوات العشر، دورات من مهرجان ربيع الفنون. جاء ضيوف وذهبوا منهم من ترك بصمة ومنهم من ترك وصمة. وأدار المهرجان رجال منهم الصادقون ومنهم دون ذلك. هيئات ذهبت وأخرى حلت محلها. منها من أحسن ومنها من أساء. شخوص برزت بصدق وأخرى بارزت بصدف.

عندما جاءت ثورة أسموها ياسمينا، وأسماها أصحابها كرامة، ظن الجميع أن الكرامة تكون قبل لخبز أحيانا أو دائما. وظنن النخبة أنه حان للمثقف أن يرفع على الأكتاف ويصلح بفكره ما فسد وكسد ويغير ما بالقوم من سوء عسى أن يغير الله ما بأنفسهم. ارتبكت الاوراق واضطربت ثم رتبت من جديد. وظننا ان الترتيب جاء ليسكر رتابة الفساد في الاذهان وينزع الوهن من النفوس والأبدان ولكن هيهات.

في دورة تحسب العشرون (20) قررت جمعية سميت بجمعية مهرجان ربيع الفنون بالقيروان ان توكل المهرجان بيد وكيل شركة. وتسلمه رقبة أهل القيروان. لم يكن هذا الوكيل الذي عين مديرا لهيئة مهرجان لا ترف تشكيلتها، سوى ذاك الذي استعمل أخبث الحيل والألاعيب ليسقط مهرجان ربيع الفنون من دون جميع المهرجانات. فبارز مسؤولي الثقافة واحدا واحدا وحارب ممانعتهم. وسخر ضدهم شياطين الانس والجن. وحارب المهرجان في دوراته التي سبقت حتى افنى عليها ونفّر الناس من المهرجان وأذاع النتن حتى عاف الناس صبرهم وأظهر الكيد حتى أسلم الناس ليبرز فجأة من وراء ستار ظلامه بلبوس أبيض لا يخفي سواد قلبه وعبثا تودد وتقرب وأزلف وأظهر ما لا يظهر من سوء وخبث وجاء ممسكا بمفاتيح الخراب الذي أذاعه ونطق على غير صدق أنه منقذ من أزمة ومخلّص من رجس ولكن لم يستطع اخفاء قلبه بردائه ولا مكره بلسانه. وأعضاده يدسون الدسائس ويزينون المساوئ وينشرون الوعود مثل نثر الاشاعات.

دقت النواقيس والاجراس مهللت بقادم لا يقاس. وأذاعت اذاعات أن الغيب الآت خير مما قد فات. صفقت النبيهات والغافلات وزفت في الآذان عجائب ما غبر من الزمان وما هو آت.

يوم الافتتاح بدأت المسرحية تنكشف ريشة ريشة. مع كل ريشة تنتف أو تنكشف، يبدأ الفارس في التعري مثل طاووس أحمق اللون والنظرات. وعلم الناس أن علامات الزهو هي هزال وأن الجعجعة كانت طحينا والحقيقة ما كانت الجعجعة لتكون لولا الطحين الفاخر…هذا من الآخر.

بهت الضيوف وسلبت أنظارهم في أضواء باهتة وضجيج مبهم. وتراءت أشباح من هنا وهناك في حركات شعوذية مثل طقوس الديك المذبوح. الفتوّات والحراس، لا يصنعون ربيع الفنون. وإن صنعوا طاووسا فلن يكون سوى منتوف الريش أو أحمق اللون والنظرات.

طالعونا بعض الفنانين من الحجم المقبول أو المتوسط فقلنا قد هل هلال رمضان والعيد دفعة واحدة. ولكن لم يلبث الهلال والقمر أن اجتمعا على طاولات القمار والاحتكار والبيع والشراء كأنهم على موعد مسبق…في القيروان عاصمة البيع والشراء والجعجعة مع الطحين الفاخر.

تلك الديباجة المرصعة بالبرامج والفقرات لم تكن سوى نسخة متعفنة من مهرجان عدو لبيئة الانسان النظيفة بسبب أوساخ اليدين والقدمين والفرجين والشفتين. وطلع علينا نفس الضيوف الذين تخيل من رآهم أنهم لم يعودوا بعد فشل. وها قد عادوا لتوسيخ البيئة في الربيع.

يحاصر شاب يافع الذهن نشيط الجسم مليئ الطموح، ضيفا من الضيوف ظنا منه أنه سيسبق من يسبق من أجل سبق يسجله في تاريخ صفحاته، ولكنه عندما يقترب من الظلال يخرج اليه مارد شخصي وضعه الطاووس الاحمق حارسا شخصيّا ليس ليحرس الضيف الذي يزورنا وانما ليدفع الزائر الذي يريد زيارة الضيف.

لم يكن هذا الحصار تنظيما ولا حسن تدبير لخير الربيع في القيروان وانما هو فعل شيطان رجيم من اجل ان يفوز الطاووس الأحمق بسبق السابقين ولا يسبقه أحد لا من خلانه ولا من هم في خلافه. ثم يطالعنا الطاووس أنه امضى عقود الاحتكار مع جميع من في القيروان، الدار وانه رهنهم وخطفهم منذ وصولهم المطار وأنه هو الوكيل وهو من يسمح بالتحرك والحديث لمن لا يخالف له حديثا ولا يخالف لحركة حاجبيه المنتوفين حركة.

نتبين نحن الغافلون مدعو النباهة، بعد جولة في الفخاخ والالاعيب وذهاب المساحيق، أننا في سوق الحماقة نشقى وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم. لأن طاووس الاذاعة هو طاووس شركة الوساطة وطاووس المهرجان الذي خطف منه الربيع. ونتبين اننا في الاخير أكلنا لحم الحمير ولم يتغير الطاووس ولم يتب وأنه على فعله الاحمق ولونه الحمق ونظراته الحمقاء.

للأسف سوف لن تجد مصدقا بقدر الأحمرة المصدقة والمصفقة لخدع الطاووس الذي تاب وندم وتغير. وسوف يجد من المستحمرين من ينطلي عليه طلاء معسول الكلام.

هذه مقدمة عن الطاووس الأحمق في انتظار بقية الفصول…أليس منكم رجل رشيد.

…يتبع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *