ذكريات “الفلقة” اللذيذة في المدرسة

مدونة تكروان- مدونات عربيّة

كتب ناجح الزغدودي
تفاصيل اليوم الأول للدراسة في طفولتي، يمرّ مامي خاطفا يحمل بعض المشاهد القصيرة ولكنني لا ذكره بدقة. ليتني وقتها التقطت صورة ودونتها. ليت والدي فعلها. ليت والدي كان يملك آلة تصوير. ليت الظروف التي عيشها كأب مع أبنائه توفرت لوالدي يومها عام 1984.

ذكريات يومي الأوّل في مدرسة الأغالبة بالقيروان أثارته مشاعر مرافقة أبنائي إلى المدرسة. هو شعور قديم عشته العام الفارط بشكل جزئي واكتمل هذا العام وتحديدا يوم السبت 13 سبتمبر قبل يومين من العودة المدرسيّة الرسميّة.

لقد تلاصقت صورة ولديّ محمد أمين مع وصال. وصال بالسنة الثانية ابتدائي ومحمد أمين بالسنة التحضيريّة.

IMG_6126

كان عليّ أن أرافق محمد أمين ليتعرّف على المدرسة التي سيباشر فيها تعلمه بالمستوى التحضيري. قبل أشهر كنت رافقته الى مدرسة عموميّة قرب منزلنا الذي هو في طور الانشاء. لكن بسبب تعطيلات معقدة منعتنا من الحصول على ترخيص التمتع بخدمات الكهرباء والماء، قررنا مواصلة الاقامة في مسكن على وجه الكراء قرب مدرسة وصال التي درست فيها العام الفارط. وهو في الحقيقة منزل في موقع استراتيجي قريب من منزل والدي زوجتي. وهو المنزل الثاني الذي نكتريه في غضون 8 سنوات. وهو أعلى سعر كراء بينها.

عند مرافقة محمد أمين على متن الدراجة النارية السوداء التي تسهل تنقلي وسط مدينة القيروان الصغيرة المكتظة، طلبت وصال مرافقتنا من أجل أن ترى قسمها. كانت وجهتنا الأولى أنا ووصال ومحمد أمين هي مدرسة وصال. مدرسة أبي زمعة البلوي بالقيروان.

كانت وصال وهي تلج باب المدرسة خجولة كعادتها. تذكر وصال أنها لم تتحصل على جائزتها من المدرسة كما وعدوها في صورة حصولها على المرتبة الأولى في 3 ثلاثيات. حققت وصال المراتب الأولى مع تحسن في كل ثلاثية لكن إدارة المدرسة نكثت الوعد. كانت الحجة هي عدم توفر ميزانيّة لكن وصال هددت بأنها لن تحصل على المرتبة الأولى مجدّدا لأنه لم يتم تكريمها على جهدها. وهنا خطآن. خطأ عدم الوفاء بالوعد وخطأ تعويد الصغار على المقابل. مرت الأمور بسلام لأنني تدبرت أمري وحصلت وصال على جائزة في إحدى المناسبات التي حضرتها صدفة بفضل لطف المنظمين، وقد اعتبرتها تكريما تدين به المدرسة لها فنسيت الأمر.

طبعا تتذكر وصال قاعة الدرس. اقترحت عليها أن تدخل القاعة لترينا مقعدها. جلست بكل ثقة على طاولتها. لم تكن تحمل أدوات. ولكن جلستها كانت شبيهة بجلسة تلميذ منتبه لمعلمه ينتظر الدرس بلهفة. رأيت في عيني وصال بريقا سطع من باب القسم. لم أتمالك نفسي أمام تلك اللحظة التي دغدغت عواطفي واجتذبت لذهني بعض الذكريات والحنين من ذكريات دراستي. التقطت الصورة.

الصورة وحدها تحكي قصصا وتعبر عن فيض المشاعر. أنستني تلك الغمرة في الطاولات القديمة. لأنني تخيلتها ذكريات وليست واقعا. حملتني وصال معها الى طفولتها جعلتني متلهفا شغوفا. ليتني أعود إلى تلك الطاولات. إنه نفس شكل الطاولات التي كنت أجلس عليها. لم يكن جسمي صغيرا ولا نحيفا مثل وصال. ولكن أذكر أنني كنت أخجل من جلوس الفتيات الى جانبي.

IMG_6130

محمّد أمين تلقى مني جينات الخجل وهو يجلس على الطاولة. فقط أردت أن التقط له صورة وددت لو أنني امتلكها في أرشيف الصور. هي قليلة الصور التذكاريّة. ولذلك أردت أن أنظر الى ابني محمد امين شبيهي وهو ينظر إلي، أنظر اليه وهو يجلس في مكاني.

صحيح أن محمد أمين اختار الطاولة الأولى ولم أكن أجلس فيها، ولكن لم يكن ذلك بإرادتي. فقد كنت أهرب الى الخلف وأواري بخجلي الكثير من الأشياء .  وثانيا لأني لم أكن اختار مقعدي بإرادتي. كانت هناك تفاصيل في المدرسة في توزيع المقاعد. لم يكن والدي يهتمان بها ولا يعرفانها. أما محمد أمين فقد كان مخيرا في اختيار مقعده.

رافقتهما، وأنا أذكر كيف ذهبت وحدي الى المدرسة. كانت مدرسة حديثة البناء يومها. توجهت رفقة عدد من أبناء الحي. أذكر جارتي وزميلتي في الدراسة التي رافقتني يومها ودخلنا القسم معا. كنت أحمل في يدي قلما علقت في اعلاه ورقة مطويّة. كذلك علمنا الكبار الذين سبقونا في الدراسة. للأسف زميلتي التي رافقتني يومها وتشبثت بقربي في طريق العودة والذهاب يوميا لم تواصل الدراسة وانقطعت منذ السنة الثالثة. أما بالنسبة لي فقد تم نقلي صحبة فريق آخر في السنة الرابعة للدراسة في مستودع. كانت الحجة يومها أنه سيتم بناء مدرسة جديدة. ولقد انتظرنا الانتقال الى مدرستنا الجديدة حي عقبة عامين كاملين قضيناهما في التعلم داخل المستودع.

IMG_6127

أذكر معلّمة الفرنسيّة فوزية. كانت تأتينا في زينتها كأنها مقبلة على حفل. بمجرد دخولها القسم تلزم طاولتها داخل ذلك المستودع. تطلب منا فتح كتاب الفرنسيّة ولا تنهض من مقعدها إلا عند استقبال إبنيها أو عندما تريد ارسال أحدنا ليجلب لها لمجة. والسبب الثالث هو تعنيفنا بالعصا ضربا على اليدين وأحيانا بطريقة “الفلقة”. كان فيصل هو الجلاد. وعندما يكون الضحيّة يمسكه اثنان منا. كان ضخم الجثة. لقد كانت أسرته تبيع الدجاج.

في تلك الفترة التي كانت ساعات الراحة نقضيها في الشارع أمام “القاراج”. أذكر كيف تبدّل النشيد الوطني. طلبت منا المعلّمة أن نشتري ورقة كتب عليها النشيد الوطني. في الحقيقة نحن أثناء الدراسة داخل القاراج لم نكن نقف في موكب النشيد الوطني مثل زملائنا في المدارس. لم تكن لدينا دورة مياه. لم يكن لدينا ناقوس ولا مدير يزورنا. ربما زارنا مدير ولكني لم أكن أعرف أنه مدير لأنه لم يصلح أي وضع ولم يسألنا عن وضعنا ولا عن احتياجنا. لو حصل لكنت ذكرته كما أذكر معلمتنا التي كانت تخرج لتلتقي زميلها المعلم في القسم المجاور لنا. كنا فقط نسمع الضحكات وقد كانت تكلف من يحرسنا ويسجل أسماء المشوشين. للأسف كان اسمي من بينهم. وقد عاقبت المعلمة المشوشين عند خروجها حتى ملت عقابنا ولكنها لم تملّ الخروج كما لم يمل المعلم رائحة الدخان التي كانت تصلنا مع الضحكات والهمسات.

حاولت حفظ النشيد الوطني الجديد بدل نشيد “ألا خلدي”. لم نكن نعلم شيئا بأمر الانقلاب ولا أي شي في مجال الحكم والسياسة. فعندما كنت أذهب الى منزل الجيران لمشاهدة التلفاز كنا نكتفي بمشاهدة الصور المتحركة التي أذكر بعضها. نعم لم تكن في منزلنا تلفزة ولا راديو. السبب أنه لم يكن لدينا كهرباء.

أذكر كيف كنت أرافق والدتي لجلب الماء على ظهرها من حنفية قريبة من المسلخ البلدي. ثم من حنفية قرب مكان يعرف ب”حفرة بكر” وهي حفرة كبيرة مثل جرف أرضي توضع فيه الفضلات. عندما كبرت عرفت انه مصبّ للفضلات. وقد تم ردمه وتحولت الارض الى مساكن مأهولة. نسي الناس ولكنني ما زلت أذكر.

IMG_6122

أذكر تلك الشمعة التي كانت تذوب وتحترق لتضيء ليالينا. لا لم نكن نقضيها في الدراسة. كنا نريد أن نلعب في كل الأوقات في النهار وفي الليل. الشارع المفتقر للإنارة لم يكن مخيفا مثل أيامنا هذه.

عادت تلك الذكريات في مشاهد سريعة وأنا أغادر مع محمد أمين المدرسة باتجاه تلك المدرسة الخاصة التي سجل فيها ليدرس سنة تحضيريّة. كنت أود لو أنني وجدت مرحلة التعليم التحضيري في مدرسة وصال. تذكرت أنه في زمان تعلمنا لم تكن هناك مدارس ابتدائيّة خاصّة. كانت تفاصيل أخرى منها الجميل. تفاصيل صغيرة عشناها صغارا وكبرنا وأصبحت كبيرة. إنها ذكريات لذيذة حتى وإن كانت فيها أيام من الجوع والعطش والتمييز السلبي والعنف والفلقة.

أمنياتنا أن يعيش أطفالنا ظروفا أفضل وأن يحلموا بشكل أفضل من أحلامنا التي تبعثرت.

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *